السبت، 21 سبتمبر 2013

قصيدة الحادث لسامي مهدي .. فوبيا الكائن الغريب وهاجس الحرب واللذة بقلم الناقد والشاعر العراقي الاستاذ حسن النوّاب

نقد :
***********************

قصيدة الحادث لسامي مهدي .. فوبيا الكائن الغريب وهاجس الحرب واللذة
بقلم الناقد والشاعر العراقي الاستاذ حسن النوّاب
************************************************
كانت الحرب العراقية- الإيرانية مشتعلة على طول الجبهات، وكان الحظ قد اسعفني بإجازتي الدورية، وفي طريقي الى البيت اقتنيت مجلة آفاق عربية من كشك يبيع الكتب والمجلات في مرآب العمارة، حتى اقتل ساعات الطريق الطويلة بالمطالعة، كنت اقلّب صفحات المجلة دون تركيز حتى اصبحت امام ناظري قصيدة الحادث للشاعر سامي مهدي، أول ما لفت انتباهي الخط الذي نُشرت فيه القصيدة، اذ كانت حروفها مرسومة بخط حديث وبعناية واضحة، ولما ابتدأت بمطالعة القصيدة جذبتني اجواؤها وطقوسها من سطورها الأولى التي كانت على صيغة سؤال بل اكثر من سؤال
أهو حلمٌ يطاردهُ
ام جنونْ
ام تفاصيل ذاكرةٍ لاتخون
لهب القصيدة
ـــــــــــ
شعرتُ ان اسئلة الشاعر الصادمة موجّهة اليّ دون سواي، اسئلة تكمن فيها لوعة عميقة واجتراح لخيال خصب مضيء بالريبة المعذّبة والعذبة في آن واحد، فهناك حلم غامض يلهث خلفك ثم سرعان ما يتحوّل الى صهيل جريح في غابة من الجنون، وحين تعتقد ان الأسئلة انتهت، يباغتك الشاعر مرة اخرى بذاكرة مبهمة ايضا غير ان تفاصيلها لا تخون؟ لكنه لن يدعك في حيرة التساؤل طويلاً انما يجيبك بإيقاع هارموني يتصاعد كاللهب في نسغ القصيدة حين يقول
فالبيوت وأبوابها
والأزقة
والناسُ
والباعة المنتشون
وانفراج الشبابيك يُطمعهم
والكوى
والرؤوس المطلّة في قلقٍ
والعيون
عدسة الشاعر
ـــــــــــ
هنا يتحوّل قلم الشاعر في اجابته على الأسئلة المثيرة التي استهل فيها القصيدة الى عدسة ذكية تلتقط بدقة نبض الحياة من خلال البيوت وابوابها والأزقة ثم الناس ويضعك امام زحام الأسواق وضجتها من خلال الباعة المنتشين، ولكن ماسرّ انتشاء هؤلاء الباعة؟ هل لسرعة اقتناء بضاعتهم من لدن الناس ام ان نشوتهم منبعها هو تطلعهم الشبقي الى النسوة المتسوقات واللائي يتناسيّن سهواً او عن عمدٍ مفاتن اجسادهن عرضة للناظرين؟ هذا الإنتشاء يفتح كوّة أخرى على خطاب القصيدة، ذلك ان الشاعر يقودنا الى مخاض جنسي مع ذواتنا دون ان ندري حين يستمر بإيقاد جمر اللذة في كلمات القصيدة، فهناك الشبابيك المنفرجة التي تُذكي فضول العابرين بالتطلع الى ما تخفّى وراءها، كما ان مفردة انفراج تحيل الى ذاكرة تقترن بعلاقة وطيدة مع تسميات جنسية غير معلنة، فهاهي الرؤوس تشرأب بأعناقها قلقا وكذلك العيون التي تفتش عن لذة خاطفة وسط هذا الزحام. وتبقى مفردة الكوى تحمل اكثر من معنى، فهل هي الكوّة في اسيجة السطوح التي تثير فضول الناظرين، ام انها الكوى التي تشي بلوعة الإشتعال الذي يشبّ بتلك العيون المتلصلصة؟ مما ارغمني الى اعادة قراءة المقاطع لأكثر من مرة مصحوبة بنشوة سرّية بدأت تزهر في مزاغل قلبي، مع يقيني ان الشاعر بدأ يُذكي طقوس القصيدة بالهاجس الجنسي الذي اصبح لافرار من سطوته في لجة اعماق نفسه، وإنْ كانت اشارته العرضية الى الغناء الحزين تمنح القارىء اكثر من دلالة، تقف في مقدمتها صفة الحزن التي اكتنفت ذلك الغناء، وفي حقيقته انمّا هو شغف الرجال الكتوم بإغراءات الأناث، فهو يقول
والغناء الحزين
والنساء إذا التعن من شغف بالرجال
والرجال إذا اشتعلوا رغبة في النساء
والخليلة في ليلة لا صباح لها
والخليلة إذ تشتهي
والفتاة إذا نهدت
والفتى إذ يشاكسها
والمضاجع
كل المضاجع
كل المواجع
وجه القصيدة الآخر
هنا تميط القصيدة عن لثامها وتعلن اسرارها وخطابها الإيروتيكي الذي يأخذنا بتوتر متصاعد الى غرائزنا المكبوتة، ونصبح امام مشهد يقطر بالشبق من خلال النسوة الملتاعات بالرجال الذين اشتعلت الرغبات في فحولتهم الجائعة الى طيف امرأة، ولكن السؤال الذي ينبثق بقوة هنا، من هم اولئك الرجال الذي يقصدهم الشاعر؟ اذ ان المشاهد المليئة برائحة الجنس في المقاطع الماضية، تحيلنا بلا ريب الى رجال اضناهم الجوع الجنسي، وهم بالواقع اولئك الجنود الذين ارغمتهم الحرب ان يكونوا بمنأى قسري عن اسرّة زوجاتهم او عشيقاتهم، وحين يعود الشاعر مرة ثانية الى تكميم القصيدة حتى يبعدها عن طقسها الحقيقي من خلال تداعيات احسبها جاءت للتمويه خشية من افتضاح ثيمة خطابها الإيروتيكي الحساس والذي لايتلائم مع ارهاصات تلك المرحلة، بل يبدو غريبا وشاذا امام واقع الحرب التي جندّت الأبواق للتهليل اليها في ذلك الوقت، برغم ان المفردات التي استخدمها ظلّتْ تشي بواقع مرير يكتنفه الحرمان حيث يقول
والفقر
والجوع
والذكريات
وماأكثر الذكريات وأعذبها
الذكريات التي..
الذكريات
فوبيا وجنون
ـــــــــــ
لقد حاول الشاعر ان يُبعد القصيدة عن صراعها الخفي ومايترتب عليه من اسى ومرارة، لكنه لم يتمكن تحرير نفسه من واقعها النفسي المشتبك، ولذا وقع بفخ شجب مباشر الى الحياة وماافرزته الحرب من فقر وجوع وذكريات لم تسعف شكيمة الشاعر بالكشف عن عذوبتها، لأنها عذوبة يبدو انها خاضعة الى افشاء اسرار لم يحن وقتها بعد، ثمة فوبيا قاسية تهيمن على ذاكرة الشاعر مثلما نعرف فيما بعد ان تلك الفوبيا تتجسّد بشكل علني في تصرفات بطل القصيدة، ومع ان الشاعر يضعنا امام لقطات سينمائية حافلة بدهشة الشعر ويشترك بمتعتها الجميع، لكنه يفاجئنا بأن كلّ ماوصفه الينا، انما كان ينهمر من عين وذاكرة انسان وحيد كان يتطوّح ثملاً في زحمة الناس والحياة وهناك فوبيا لعينة ترافقهُ حتى تقوده في نهاية المطاف كالمأخوذ الى هاوية الجنون.. لاحظوا ذلك
كان في زحمة العابرين
يتطوّح مكتئباً
لا يكاد يرى أحداً أو يحس به أحد
كان في كل حين
يتلفّت
تلك العمارات
يجفل
هذا الجنون
لا يكاد يرى أحداً أو يحس به أحد
والعيون
خرز يتقلّب
من ذا يرى الآخرين؟
ويرى نفسه بينهم؟
من يكون،
هو بين الملايين من جنسه،
من يكون؟
خائفاً كان مما يراه ويسمعه
من غلوّ العمارات
من واجهات المخازن
من صخب الناس
من ضجة الحافلات وأبواقها
خائفاً كان حد الجنون
الكائن الغريب
ـــــــــــ
نحن اذن امام كائن مختلف عن الآخرين، يشعر بغربته الروحية والنفسية عن الناس وقصوره المادي ازاء هذه الحياة، كائن وديع تشبّع في دمه الخوف، الخوف من كل شيء حتى من ابواق السيارات، بل ان رعبه يأخذ بحياته المرتبكة الى الجنون كما ان الشعور بالإضطهاد يلازمه كظله وهو بالواقع انما الفوبيا التي اشرنا اليها سابقا والتي سرى رعبها في جميع مفاصل القصيدة، عندما ينجح الشاعر سامي مهدي ببراعة وقوة ملاحظة دقيقة في رسم الفزع الذي يحيط بهذا الكائن الغريب، وليس هذا وحسب، انما نكتشف ان هذا الكائن التائه بين صخب الحياة وزحمة العابرين كمن ينشد ملاذا آمنا يستكين فيه ويتخلص من رعب يطاردهُ؟ هل كان هذا الكائن الذي شعر القارىء بالتعاطف الكبير معه، احد الجنود الهاربين من جبهة الحرب والذي لم يجد سوى الخمرة من تسعفه حتى يبقى صامدا امام هاجس الخوف الذي يلاحقه كظله، ذلك ان الهارب من جبهة الحرب مصيره الإعدام؟ فهل كان هذا الكائن المدمر الذي اوصله عشقه المضطرب بالحياة الى مدينة لاتنتبه اليه ومع ذلك يشعر بالهلع منها، هل كان سويّاً مثل الآخرين؟ سينجلي المشهد الينا بوضوح حين نقرأ ماكتبه الشاعر في السطور الأخيرة من القصيدة
الحادث وهاجس الحرب
ـــــــــــ
فتعثر حتى هوى
واستغاث
فمدّ له يده عابر،
بل يديه،
وأنهضه
فرأى نفسه
ورأى الآخرين.
كان ثمة حشد من العابرين يحفُّ به
فاطمأن إلى نفسه
وإلى غيره
ومضى وهو يعضل في زحمة العابرين.
ان حادث السقوط التي تعرّض اليه ذلك الكائن المفزوع كانت متوقعا من سياق القصيدة حتى احتّل عنوانها عن جدارة واستحقاق، لكن الذي لم يتوقعه القارىء ان العابرين يلتفتون اليه وان احدهم يساعده على النهوض، لاحظوا الفعل هوى الذي استخدمه الشاعر فهو يعني الوقوع مثلما يعني العشق؟ ولكن اي عشق عنيف للحياة كان يختلج في اعماقه واذعن الى سطوته هذا الكائن الغريب وبالتالي جعل مصيرهُ ملتاعا ومرتبكا امام ظرف قاسٍ ومزرٍ يكاد ان يكبّلهُ ويبيد احلامه ورغباته، وحين يفطن الى نفسه اخيرا بعد ان ينهض من الحادث الذي تعرّض لهُ بمعونة احد العابرين، يبدأ يرى الناس بوضوح برغم ثمالته،لكن الحادث الذي ارتكزت عليه ثيمة القصيدة يبقى يحمل اكثر من علامة استفهام؟ فهل سقط هذا الكائن من ثمالته ام من خوفه ام من عوقه، ام نتيجة تلك الحالات مجتمعة؟ فهذا الكائن نكتشف في نهاية المطاف انه يعضل؟ ترى هل ان عوق ساقه كان منذ الولادة ام من شظية حرب؟ ام من حادث مرور؟ ذلك السؤال الذي تركه الشاعر دون جواب في زمن حرب عمياء تركت عوقا في روح واحلام وذاكرة الجميع.وماهذا الحادث التراجيدي الزاخر بالألم الاّ رصداً حافلا بالإنسانية لعيّنة مؤلمة من تلك الحرب التي مازالت قائمة حتى الآن.لقد تسنّى اليّ قراءة هذه القصيدة مرات كثيرة، وفي كل مرة اشعر ان عذوبتها ولوعتها تتجدد، حتى حانت لحظة الكتابة عنها بعد اكثر من ثلاثين سنة في مهجري البعيد، انها قصيدة تبدو وكأنها تمنحك اسرارها بسهولة لكنها تدعك تشعر بمشقة غريبة ولذة تشاطرها، تلك اللذة التي تشبه الى حد بعيد مشقة المتعة على سرير انثى غريبة وغامضة في مساء ممطر؟
قصيدة الحادث»الشاعر سامي مهدي»مجلة آفاق عربية عام 1984، ونشرت فيما بعد في مجموعته الشعرية اوراق الزوال عام 1985.
*جريدة الزمان (اللندنية ) http://www.azzaman.com/?p=4445

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ويومكم مبارك ورمضانكم كريم

  ويومكم مبارك ورمضانكم كريم ونعود لنتواصل مع اليوم الجديد ............الجمعة 29-3-2024 ............جمعتكم مباركة واهلا بالاحبة والصورة من د...