حركة جماعة  أصدقاء الفن في كركوك 1952

أ.د.إبراهيم خليل العلاف
رئيس اتحاد كتاب الانترنت العراقيين



ارتبطت البداية النشطة والجادة للحركة التشكيلية في كركوك بل وفي العراق كله ارتباطا وثيقا بتطورات ونتائج الحرب العالمية الثانية ( 1939ـ1945) وخاصة في مجال تنامي الوعي السياسي، وتيقظ الأفكار الديموقراطية، وشيوع فكرة التقدم Idea of progress وقد بلغت الحركة ذروتها في سنوات الخمسينات من القرن الماضي، حينما ظهرت تجمعات أدبية وفنية وتشكيلية ومسرحية وثقافية في مناطق مختلفة من العراق. ولعل ( جماعة أصدقاء الفن ) التي تأسست في مدينة كركوك سنة 1952 وتحولت فيما بعد إلى ( جماعة فناني كركوك ) من أهمها.
ويعد محمود ألعبيدي، وسنان سعيد، وصديق احمد من آبائها المؤسسين الأوائل. وقد أقامت الجماعة بعد تشكيلها أول معرض لها في كركوك في أيار سنة 1954 باسم ( معرض أصدقاء الفن )
ويؤرخ المرحوم الأستاذ الدكتور سنان سعيد نشأة هذه الجماعة بقوله: (( أن جماعة فناني كركوك لم يقدموا طلبا بتأسيس، ولم يعتمدوا على نظام عمل كجمعية، ولم يكن لهم مقر، ولم ينتخبوا رئيسا لهم، ولم يحظوا بأي دعم أو تشجيع مادي أو معنوي من قبل المسؤولين... إلا أنهم مضوا في عملهم بحماس في إطار تعاون فريد تعززه روح الهواية الصادقة واندفاع الرغبة الذاتية )).
وحول طبيعة الجماعة يقول: (( إن الجماعة اندفعت باتجاه ((إنشاء حركة فنية تتجاوز الصيغ المحلية الرتيبة والخاطئة التي كانت سائدة ومع أنهم لم يرتبطوا بوثيقة نظرية وبرنامج عمل مدون، لكنهم التقوا واتفقوا في الموقف من العمل الفني، وانتهجوا الواقعية بالاتجاه إلى الحياة والطبيعة والعناية بالعالم المرئي واستلهام المواضيع من واقع المجتمع، ونبذ محاكاة الطبيعة والأشخاص بصيغة النقل الفوتوغرافي الجامد، الذي كان متبعا في العراق لفترة طويلة من الزمن )).
ويشير الأستاذ الدكتور سنان سعيد إلى أن من العوامل التي شجعت هذه الجماعة على المضي في عملها الفني المشترك، الإقبال الفريد والشديد الذي حظيت به معارضهم، وكان ذلك أمرا لم تكن كركوك قد شهدت مثيلا له من قبل باستثناء ما ذكره الأستاذ وحيد الدين بهاء الدين من أن بعض نزعات الفن قد بدأت تتجلى منذ الأربعينات من القرن الماضي عبر مجموعة من الشباب الرواد في كركوك أمثال شفيق عمر رضوان، ومحمد مهدي خليل ومحمد علي احمد وشفيق عمر بزاز وعبد الحكيم مصطفى، إلا أن تلك النزعات ظلت ترواح مكانها، فالظروف آنذاك لم تكن مهيأة لهم لممارسة نشاطاتهم بحرية وثقة واسعتين.. ويقول كذلك ((أن هاتيك النزعات الفنية ذات الطابع الفردي أخذت تشق مجراها على نحو أرحب وبشكل أجدى في الخمسينات حينما ظهرت جماعة أصدقاء الفن )).
وثق لجماعة أصدقاء الفن وفيما بعد لجماعة فناني كركوك عدد من الفنانين والكتاب والباحثين، ولعل الأستاذ الفاضل الحلاق من بين هؤلاء الذين تابعوا نشاط الجماعة، ومن ذلك ما كتبه في العــدد الخامس من مجــلة سومر 2007
( الكركوكية) ومما أكد عليه في مقالته تلك أن الفنان للحركة الفنية التشكيلية في كركوك.. وقد قام هذا ( المعلم الكركوكي الذي ولد سنة 1938 وتخرج في دار المعلمين الابتدائية وتتلمذ على يد الفنانين حافظ ألدروبي وجواد سليم وخالد الرحال ونسب لتدريس الرسم في إعدادية كركوك للينين سنة 1952)، بدور بارز في جمع شمل زملائه من الفنانين ومنهم صديق احمد وسنان سعيد تحت التسمية الأخيرة التي احتضنته في البداية وهي جماعة أصدقاء الفن وما لبث أن انضم إلى هذه الجماعة فنانين آخرين منهم محمد مهدي خليل، وناطق محمد علي، وهاشم محمد الموصلي، وعز الدين الصندوق، وعلي قنبر، وموفق أنطوان الوكيل، وازاد وهي كيورك. وقد أقامت الجماعة أول معرض لها في مدرسة غازي الابتدائية بكركوك سنة 1954. أما المعرض الثاني كان في سنة 1956 وفي شباط 1957 أقامت معرضها الثالث وبعد ثورة 14 تموز 1958 أقامت معرضها الرابع الذي شارك فيه فنانون شباب جدد منهم أنور محمود سامي الغساني ومؤيد الراوي و نجدت النقيب وعبد الله أمين وسعاد ارسلان وآيدن ألصالحي وآيدن العراقي وصلاح الدين شيخلر. وقد أقيم للجماعة وصارت تسمى جماعة فناني كركوك معرض خامس سنة 1969 في قاعة الفن الحديث ببغداد بمشاركة فنانين شباب أكاديميون منهم خالد محمد رمضان ونور الدين عزت ونوزاد كدك وفخري جلال وغيرهم ولعل هذه أول مرة ينظم الجماعة فيها معرضهم خارج كركوك.. أما أول معرض لهم خارج العراق فقد أقيم في أنقرة بتركيا سنة 1973. ويقول بهجت غكمين في مقالته الموسومة ((محمود ألعبيدي مؤسس جماعة فناني كركوك )) المنشور في العدد الخامس من مجلة سومر 2007 أن مؤسس الجماعة محمود ألعبيدي من رواد الحركة الفنية في العراق، وقد شارك في العديد من الدورات التي أقامتها منظمة اليونسكو، وقد رشح لبعثة فنية خارج العراق وقد أقام خلال مسيرته الفنية العديد من المعارض في النحت والرسم والسيراميك وتتميز أعماله بالواقعية والانطباعية والتعبيرية وقد تم تكريمه مرات عديدة ومن جهات مختلفة وكما هو شأن، القاص جليل القيسي من جماعة كركوك الأدبية فانه لم يبرح مدينته كركوك التي عشقها ووضع كامل خبرته الفنية والتربوية لخدمة الحركة الثقافية والفنية فيها ومن أعماله النحتية تمثال الشاعر أبي العلاء المعري (1948) وتمثال الفيلسوف الكندي وتمثال الجندي وجدارية من الموزائيك تزين مقهى المجيدية بكركوك كما أن له مؤلفات عديدة منها ((فن الرسم )) و ((كيف نرسم المجسمات)) و ((الأشغال اليدوية)) و ((الحفر على الخشب)). وسرعان ما توالى تنظيم المعارض الفنية لأعضاء هذه الجماعة، ويعد معرض المنصور ببغداد والذي كان يضم أعمال العديد من فاني بغداد ونظم في سنة 1975 يعد من آخر المعارض التي شاركت فيها الجماعة بصورة واضحة، فبعد هذه السنة بدأت الأعمال الفنية لفناني كركوك تتباين باختلاف مرجعياتهم الدراسية والفنية والثقافية، لذلك توزعت هذه الأعمال على اتجاهات فنية مختلفة كالطبيعة والتجريدية والتعبيرية والواقعية والرمزية، لكن بالرغم من ذلك يقول الأستاذ فاضل الحلاق، فان هذه الأعمال حاولت أن تسبح في نهر مشترك من خلال رؤية عامة للهم العراقي وموروثه الشعبي الثر والبحث عن ومضات مشرقة في ضبابية الحاضر وغيوم السياسة التي غلقت الفضاء العراقي عموما بعتمة تكاد لا تنجلي )).
كان للمدرسة دور مهم في احتضان أعمال جماعة أصدقاء الفن، ذلك أن اثنين من مؤسسيها وهما محمود ألعبيدي وسنان سعيد كانا يعملان في التعليم.. أما الثالث وهو صديق احمد، فكان ضابطا في الجيش برتبة مقدم ومن مواليد محلة راس الكور بالموصل سنة 1915.. وقد تتلمذ على يد الفنان عاصم حافظ (1886 ـ1978) وهو موصلي وعسكري مثله. أكمل صديق احمد دراسته، كما يقول المرحوم ستار الشيخ في بحثه الحركة التشكيلية في الموصل والمنشور في الجزء الخامس من موسوعة الموصل الحضارية ( الموصل1992) التي أصدرتها جامعة الموصل وطبعت في دار ابن الأثير للطباعة والنشر، في دار المعلمين الابتدائية سنة 1935 وبقى معلما حتى سنة 1938 حين التحق بالكلية العسكرية وتخرج ضابطا وخدم في الجيش العراق حتى تقاعده سنة 1963. ويقول الناقد المرحوم شاكر حسن آل سعيد في كتابه الموسوم فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق ج1، بغداد 1983، عن صديق احمد بأنه كان ((يدرك بإحساسه المرهف جمال الربيع.. فكان يميل معظم الأوقات في لوحاته إلى ما يمثل فصل الربيع وقد تسنى لي أن اطلع في داره على إنتاجه الغزير... وان ادرس عن كثب (موضوعيته) في اختيار الموضوع الانطباعي بحصانة وشاعرية من تمرس في تأمل الطبيعة العراقية بعين ثاقبة وبروح جذلى)) ويعد صديق احمد من أوائل الرسامين الانطباعيين في العراق.
أما الأستاذ سنان سعيد فقد سافر إلى بغداد وعمل في الصحافة ثم أكمل دراسته العليا وحصل على الدكتوراه من جامعة باكو بأذربيجان وعاد إلى وطنه وعين في جامعة بغداد مدرسا ثم تولى رئاسة قسم الإعلام بكلية الآداب جامعة بغداد حتى وفاته رحمه الله. وقد عرفته أديبا متمكنا وصحفيا بارزا وأستاذا فاضلا وفنانا مجيدا وإنسانا رائعا. ولم يتخلف سنان سعيد عن توثيق نشأة جماعة أصدقاء الفن ثم جماعة فناني كركوك إذ كتب عنهم في أكثر من مكان وقد أعادت مجلة سومر في عددها الخامس 2007 المشار إليه نشر مقالته الموسومة(جماعة فناني كركوك ) وذلك عبر الصفحة (22) من المجلة. هذا فضلا عن أن المجلة أوردت عناوين عدد من المصادر التي أرخت للجماعة، منها على سبيل المثال ما كتبه الأستاذ وحيد الدين بهاء الدين بعنوان : ((الحركة الفنية في كركوك )) مجلة صوت الاتحاد، العدد 38 لسنة 1938 وكذلك ما كتبه محمود ألعبيدي في جريدة الجمهورية ( البغدادية) يوم (4 ) حزيران 1985 بعنوان ((جماعة فناني كركوك)) وما كتبه صلاح الدين شيخلر بعنوان (( الفن وفنانو كركوك)) في النشرة الفنية للنشاط الفني في تربية كركوك العدد الثاني 1963 ـ 1964.
لقد خدمت جماعة فناني كركوك خلال فترة نشاطها الطويلة الممتدة من سنة 1952 وحتى 1975، الحركة الفنية التشكيلية العراقية المعاصرة، وأثرت جوانبها، وعمقت دورها الفاعل في الحياة والكون والإنسان وخاصة من حيث تأكيدها على أهمية استلهام التراث الحضاري العراقي ببعده المحلي والإنساني هذا فضلا عن معايشة الواقع والاستفادة من تجارب الفن العالمي المعاصر، ولعل ما يؤكد ذلك ما ذكره الفنان فخري جلال ( مواليد كركوك 1940) وهو احد الفنانين العراقيين الرواد بحق تلك الجماعة عندما قال أن الحركة الفنية التشكيلية العراقية كانت متقدمة ومشرقة ولأعمال جماعة كركوك سمعة طيبة ليس فقط داخل العراق وإنما خارجه كذلك..