الخميس، 19 أغسطس 2010

الشاعر عارف الساعدي بين رحلة بلا لون وعمره الماء



الشاعر عارف الساعدي بين رحلة بلا لون وعمره الماء
أ.د. إبراهيم خليل العلاف
أستاذ التاريخ الحديث –جامعة الموصل
منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي، وأنا اقرأ لشاعر شاب بدأ ينحت لنفسه طريقا مميزا في الساحة الشعرية والثقافية العراقية المعاصرة ودون أن يأخذ حقه الكامل من اهتمام النقاد. ولربما السبب في ذلك هو طبيعة الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في العراق والتي طغت على ماغيرها من أوضاع الأدب والفكر والثقافة .ويقينا أن ديوانه الأول الذي صدر سنة 1999 بعنوان :" رحلة بلا لون" قد اجتذب الأنظار إلى مولد مبدع جديد في حقل الشعر العراقي، لاسيما وان صاحب هذا الديوان استطاع أن يضم حوله مجموعة أدبية عرفت في حينه ب " جماعة " قصيدة شعر " عام 2002 .
ومما عزز اهتمامي بهذا الشاعر الذي أتوقع أن يترك بصمة واضحة في جدران الأدب العراقي المعاصر وفي الحركة الثقافية العراقية عموما ، انه تجرأ فأصدر ديوانه الأول وهو لما يزل طالبا في قسم اللغة العربية بكلية التربية – الجامعة المستنصرية .كما انه لم يدخر وسعا في تقديم نفسه،فشارك في عدد من أنشطة مهرجانات الشعر التي كانت تقام في العراق ومنها –بطبيعة الأحوال –المربد الشهير .وقد انتمى إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وأصبح عضوا فاعلا فيه. كما كان عضوا في الرابطة المركزية للشعراء الشباب في العراق .وكان ينشر جانبا من شعره في جريدة الجمهورية ( البغدادية ) .
عارف حمود سالم الشياع الساعدي ،وهذا هو اسمه الكامل من مواليد بغداد سنة 1975 وقد أنهى دراسته الابتدائية والمتوسطة والإعدادية فيها ، ثم دخل كلية التربية بالجامعة المستنصرية – ونال البكالوريوس. وهو الآن يحضر للحصول على الدكتوراه في الأدب الحديث ، علما بأنه قد سبق أن حصل على شهادة الماجستير من كلية التربية –جامعة بغداد عن رسالته الموسومة : " شعر عدنان الصائغ :دراسة أسلوبية " والتي نوقشت يوم 7 أيلول-سبتمبر 2006 وكانت بأشراف الدكتور ستار عبد الله .ونالت درجة الامتياز . كما يقدم في الوقت الحاضر ، من قناة الحرة الفضائية،برنامجا ثقافيا –سياسيا بأسم : "سيرة مبدع " يستضيف فيه مبدعين عراقيين بارزين في حقول الأدب والفن والشعر والرواية والنقد والاجتماع والسياسة وتتم في البرنامج عملية كشف أسرار في حياة وسيرة المبدع وبأسلوب جميل ومفيد وسلس وقد وصف الاستاذ الساعدي من قبل عدد من المراقبين لهذا البرنامج وأدائه فيه بأنه على جانب كبير من الكياسة والهدوء والأدب .وممن التقى بهم الروائي فؤاد التكرلي والناقد فاضل ثامر والشاعر موفق محمد والفنان سامي قفطان والناقد الموسيقي عادل الهاشمي . عقب الأستاذ كاظم ال مبارك الوائلي على اسلوب الساعدي في تقديم ضيوفه من المبدعين العراقيين : " قائلا :"

تميز هذا البرنامج بالاحترافية العالية التي لم يتعود عليها المشاهد العراقي من حيث الملبس والديكور والتقنية التي ضاهت برامج كبريات الفضائيات العربية, والأجمل من ذلك الشئ الذي زاد حلاوة تلك الإدارة والالتزام االأخلاقي والثقافة التي تمتع بها عارف الساعدي استضاف هذا البرنامج ثلة من المبدعين الذين كانوا ولا زالوا يتربعون على عرش الإبداع العراقي من شاعر وممثل وموسيقار ومطرب وكاتب حيث استضاف عالم الدين والشاعر حسين الشامي بعمامته السوداء والموسيقار كوكب حمزة بماركسيته وسعدون جابر بثراءه اللغوي وطالب القره غولي بعتبه على الزمن وفؤاد سالم بشغفه السياسي والشاعر والموسيقار وابن العشائر شيخ الاوتار حسين سالم, تعامل البرنامج ومقدمه مع هذه الشريحة من باب الوجود الإنساني وليس الانتاجي فحسب, دخل عارف الساعدي بحضاريته وشبابيته وفضوله حياة هذه النخبة من الجانب الشخصي والإبداعي وكان الضيوف بقدر عال من الكرم بسرد قصة بداياتهم بعفوية وسلاسه تنم عن المرحلة الانسانية التي سبق وأن كانت محظورة على الجمهور, لقد تمكن هذا البرنامج من خلق حالة فريدة بعرض الوجه الآخر للمبدع وكذلك القدرة على البحث والوصول إلى مبدعينا . "


في كانون الثاني 2009 وقع الشاعر عارف الساعدي نسخا من ديوانه الثاني : " عمره الماء " في قاعة الوركاء بفندق الشيراتون ببغداد . وقد حضر حفل التوقيع عدد من الأدباء والشعراء والسياسيين والنقاد ومحبي ألساعدي. وتميز الحفل –على حد وصف المحرر الثقافي لصحيفة الصباح الجديد بالحميمية " فالحميمية كانت حاضرة ، لا في فقرات حفل الشيراتون الاخير ، بل في تفاعل أصدقاء الساعدي مع الأجواء .
و هذا عائد ، كما أكد الكثيرون ، إلى حميمية عارف نفسه ، ففضلا عن كونه شاعرا ذا حضور مميز في المشهد الثقافي العراقي منذ نهاية التسعينات ، إلا أن عمله في الإعلام التلفزيوني و ارتباط اسمه ببرامج استقطبت الكثير من المتابعين كان له اثر لا ينكر في ازدياد عدد المهتمين به . "يقول الشاعر والناقد الأستاذ علي الفواز: " إن الشاعر عارف الساعدي من الشعراء العراقيين الشباب الذين اوجدوا لأنفسهم موقعا في الساحة الشعرية العربية " .
وديوان "عمره الماء " يقع في 120 صفحة من القطع المتوسط وقد ضم بين دفتيه قصائد متنوعة الموضوعات والأغراض وفق شكل القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة. وقد اثبت الساعدي بأنه من الأصوات الشعرية المميزة التي سجلت حضورا فاعلا في الوسط الثقافي العراقي المعاصر.
حصل الساعدي على العديد من الجوائز، منها الجائزة الأولى في مسابقة " المبدعون " للشعر في دبي عام ،2000 وجائزة سعاد الصباح للشعر عام 2004 .
من شعره الجميل قصيدة : "الطوفان " جاء فيها :

ناديته وخيوط الصوت ترتفع
هل في السفينة يامولاي متسع

ناديتهم كلهم هل في سفينتكم
كأنهم سمعوا صوتي وما سمعوا

ورحت اسأله ياشيخ قسمة من
نجوت وحدك والباقون قد وقعوا

وهل سترتاح هل في العمر طعم ندى
وأنت وحدك والصحراء تجتمع

وكيف تبدأ هذا الكون ثانية
وقد تركت الفتى والموج يصطرع

أنا صغيرك أقنعني وخذ بيدي
أم أنت بالموت والطوفان مقتنع

الماء ياكل أحداقي وتبصرني
كيف استرحت وعيني ملؤها هلع

وهل ستذكر قبل الموت كيف دنا
عيني تضيق وعين الموت تتسع

وهل تنام وفي عينيك نابتة
عيون طفلك والألعاب والمتع

أم سوف تنساه مزروعا بخاصرة
الطوفان يركله الطوفان والفزع

ياشيخ ذاكرتي الأولى وياابتي
وبالذي ضاق بي تقواه والورع

اكتافك السمر ياما قد غفوت بها
وصدرك الفرح المنسي والوجع

كل التفاصيل مرت في مخيلتي
البيت والأهل والأشجار تجتمع

صدى غراماتي الأولى وأسئلتي
والقبلة البكر والأسرار والخدع

مرت سريعا علي الناس والتصقوا
في دمعتي وعلانا الموج فانشلعوا

كل الحكايات يامولاي تبصرها
وتزدريها لهذا حزننا جشع

أنت الذهبت بعيدا عن مواسمنا
لتصنع الكون لاخوف ولاطمع

ماذا صنعت وهذي الناس ثانية
من كل ليل إلى سوءاتهم رجعوا

صاغوا ملامح موت لايليق بنا
وحزمة من مناف فوقنا وضعوا

وأورثوا كل شيب الأرض في دمنا
متنا كثيرا وقلوا موتكم جرع

لاجل من أنت يامولاي ترفضني
لأجلهم أكلوا الدنيا وما شبعوا

وهاهم زرعوا الأنهار خيط دم
وكم حصدناه في صمت وكم زرعوا

ماذا صنعت إذن مولاي معذرة
كلي سؤال وشكي كله بقع

هل اقتنعت بهذا الكون ياابتي
أم نهر حزن لهذا الشيب يرتفع

ياكم بكيت عليك الآن ياابتي
فقد غرقت كثيرا عندما طلعوا

إني لأبصر في عينيك ياابتي
أشجار خوف بلا خوف ستقتلع

وقد رايتك ندمانا ومنكسرا
وفوق حزنك ينمو سكر ورع

نحتاجك الآن للطوفان ثانية
فربما نصف طوفان وننتفع

فاصنع سفينتك الأخرى وخذ بيدي
فأنني الآن بالطوفان مقتنع
كتب الناقد الأستاذ محمد ونان جاسم مقالة نقدية بعنوان : "مقاربة دلالية للعلاقة بين الصوت والبصر في قصائد عارف ألساعدي " وقف فيها عند ديونه الجديد "عمره الماء " ووصل إلى النتائج التالية :
1_يمتلك الشاعر عارف ألساعدي زمام الشعرية امتلاكاً مرهفاً وفي بعض قصائده خروج عن وثيقة بيان (قصيدة الشعر) نحو قصيدة (الشمس في بغداد تعني حضن أمي) فالقارئ سيري تغريضاً بيّنا وروحاً سيابية.
2- لم يهتم الشاعر بكيمياء القصيدة فحسب، بل اهتم ببنيتها من خلال إقامة علاقات محققة للشعرية.
3- أكدت قصائد الشاعر على المنقذ الإنسان أو الذات.
4- أغلب القصائد دارت في المنطقة محايدة بين قولين مختلفين هما:
النص الشعري نص صوتي / النص الشعري نص بصري
5- أنموذج الخلق لم يكن نمطيا ً ولم يكن أسطورياً، بل أمر بين أمرين.
في مؤتمر حوار بغداد الثقافي الأول شارك الشاعر عارف الساعدي بقصيدة جميلة قال فيها :
روضت أسئلتي وجئت
وكسرت أصنامي وتبت
أحرقت نصف الليل
وانهدل الصباح وما طلعت
ومن قصائده : "قصيدة بعنوان :"آت " جاء فيها :

إليَّ وإنْ لفَّ السنينَ كرى _________________________ وإنْ غفا هاجسي في الريح أو عثرا _________________________
آتٍ وفي مقلتي فجرٌ وفي شفتي _________________________ هذا الذي يغزل الأنهار والشجرا _________________________
آتٍ ألمُّ عيون الشمس حيث رمَتْ _________________________ عيونها وأدارت خدها صعرا _________________________
آتٍ لأزرع في أنفاسها مقلاً _________________________ كي يعلموا أنَّ شمس الجائعين ترى _________________________
وكان لي وطنٌ بلَّلتُ جبهته _________________________ بالمستحيلات كي يجري إباً فجرى _________________________
آمنتُ بالبحر يغفو في أنامله _________________________ ويستفيق على أحداقهِ مطرا _________________________
آمنت بالمدن السمراء شامخةً _________________________ تمشي وتورق من أقدامهنَّ قرى _________________________
آمنت بالوطن المذبوح فوق فمي _________________________ آمنتُ... آمنتُ حتى قيل قد كفرا _________________________
وبعد أن ذبل الشلال في قمري _________________________ ودبَّ همسُ انطفاءٍ فيه وانتشرا _________________________
وسال ليلٌ مفازات أساوره _________________________ إذ عينه غابةٌ والجوع فيه عرى _________________________
نفضتُ جرحي فأغراني تكبّره _________________________ واستيقظت شرفاتٌ قد غفتْ عُصُرا _________________________
آنا وإيايَ من أيقظتُ جذوتهم _________________________ فقد أرقتُ على أسوارهم قمرا _________________________
آنا وإياي حلمٌ كم أؤجله _________________________ ومستحيلٌ على الأعناق قد كبرا _________________________
أسماؤنا كالعرايا من سيُلبسها _________________________ صوتَ المغني إذا صار الفتى حجرا _________________________
فيروز أولُ حزنٍ في طفولته _________________________ قد علَّمتْه أنين الناي والسفرا _________________________
فيروز خمر بأحزانٍ ملونةٍ _________________________ إذ كلما شمَّ خمر الحزن قد سكرا _________________________
آنا وإياي من أخفَى أمانيه _________________________ تحت التراب.. ثريا في غضون ثرى _________________________
محمَّلٌ بالحفاة العُربِ من زمنٍ _________________________ محملٌ بالدما والطين والفقرا _________________________
أمضي فتحترق الصحراء في سفري _________________________ معي عصايَ رميتُ الغيم فانكسرا _________________________
معي أنا وحدنا والبحر يشربنا _________________________ حتى رسمْنا على أكتافه جزرا _________________________
حزني بحجم انتظار النخل في وطني _________________________ لكنني كلما أوذيتُ زدتُ ذرى _________________________
إلاّ هواك بلادي فهو لي قدرٌ _________________________ قد خُطّ فوق مرايا الروح وانتشرا _________________________
فجئت أحمل أعوامي مبعثرة _________________________ عشرين واثنين فامنح لهفتي عمر
نال ديوان الشاعر والباحث عارف ألساعدي : " عمره الماء "، اهتمام النقاد والكتاب ومن ابرز الذين كتبوا عن الديوان الدكتور باسم الاعسم في مقاله الذي نشره في جريدة الصباح 22 تموز 2009 بعنوان : مايرسمه الشاعر ..مالم يقله الرسام !! جاء فيه :
بأمتزاج الماء الأزرق بالطين (الحرّي) ، تتشكل البنية الرمزية التكوينية لقصائد الشاعر عارف الساعدي في سفره الشعري الموسوم بـ (عُمرُهُ الماء ) ، فتكتمل صورة المقاطع الشعرية ، وتنهمر الكلمات والجمل المبللة بندى الشعر ، صادمة أفق انتظار القارئ ، بوصفها قصائد تشتغل على رؤيا التحديث في بناء النص الشعري ،الذي يتقاطع مع مألوفية القصيدة العمودية الساكنة على صعيد اللفظ والصورة والرؤية والحدث المصطفى ، بحسب مهارة الشاعر الرسام الذي جعل المقاطع الشعرية تتراقص من فيض حلاوتها وإيقاعها المنتظم .
رسمت غيماً ولم أرسم له مطرا
لكنه كسّر اللوحات وانهمرا
وفزز الماء طيناً كان مختبئاً
في لوحتي ناظراً
في صمته المطرا (ص17 (
هكذا يرسم عارف ألساعدي لوحات شعرية متناغمة الألوان ، متنوعة الدلالات ، متعددة الرؤى ، متناسبة الأجزاء ، تزينها لغة متأنقة ، وألفاظ رشيقة ، رشاقة الشاعر المتوجس في خطواته المرتبكة باتجاه الوطن اللون والحلم ..
عُمرُهُ الماء كلما جف فجر
سوف يأتي وعمره الرافدان
يا بقايا حضارتي
ونخيلي
أنت باق وماء غيرك فان
هكذا سوف أرتقى
وأغني بعد أن مر عمرهُ في الأغاني (ص 15 (
وثمة عناصر محورية مثلت القطب الذي دارت حوله قصائد المجموعة وهي :( الماء ، الوطن ، الاغتراب ) ، فالماء كان بمثابة الكائن الحي ( الإنسان ) له عمره ولونه وتأريخه وذكرياته وفعله المؤثر ، ولعل أرق ما في قصائد المجموعة الشعرية ( عُمرُهُ الماء( هي رقة ألفاظها وتلقائية نسجها وجمالية صورها والحس الوطني الذي يكسوها .
*الرجاء زيارة مدونة الدكتور ابراهيم العلاف ورابطها التالي :
http://wwwallafblogspotcom.blogspot.
com/2010/02/1908-1995.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معنى كلمتي (جريدة ) و(مجلة )

  معنى كلمتي ( جريدة) و(مجلة) ! - ابراهيم العلاف ومرة تحدثت عن معنى كلمة (جريدة ) وقلت ان كلمة جريدة من   (الجريد) ، و( الجريد) لغة هي :  سع...